جلس على كرسيه مادا قدمه على منضدة وضع عليها كراسات مادة التعبير , ظن أنه بصدد جلسة استرخاء وارتياح من إرهاق يومه فى المدرسة الجديدة التى انتقل لها بعد الثورة , كان قد تعمد أن يطرح نفس الموضوع الصعب عليه حين كان طالبا لعله يستمتع بفشل التلاميذ وعدم قدرتهم على التعبير عن معنى الحرمان .
فتح الكراسة الأولى فإذا أحمد ذلك الفتى النبيه يشكو ويبث آلاما عبر قلمه فى كراسته حاكيا عن تجربته مع حرمانه وأمه وإخوته الصغار حال حرمانهم من والدهم وعائلهم الوحيد , وكيف كان عونهم وملاذهم فإذا هم يفقدونه فجأة فى أحداث مظاهرات ميدان التحرير , ويئن القلم من حسرة الكلمات فتسيل للمدرس عبرات فيعتدل فى جلسته ويتذكر دوره وواجبه نحو أهل شهداء ثورة التحرير .
يفتح الثانية , فإذا هى الطالبة الهادئة ريم , وكان والدها قد سماها بهذا الإسم تيمنا بالشهيدة البطلة ريم الرياشى , التى أقضت مضاجع الصهاينة العلوج , فإذا بتلك الفتاة تعرض حلقات من مآسى إخواننا وأحبتنا فى فلسطين , وتروى شطرا من حال أهل غزة المناضلين , وتحكى ما حدث لإخواننا مما يشيب لهولة الأولاد وتتفتت الأكباد ويتمزق له نياط الفؤاد من أطفال تقتل , ونساء ترمل وأمهات تثكل وبيوت تدمر وأسر تشرد , فيشهق المدرس شهقة ويقول يا ويلى أين أنا من حرمان إخواننا فى فلسطين الحبيبة ومنكوبى المسلمين ؟!
ينتقل لكراسة آية تلك الطفلة الذكية مرهفة الحس , فإذا هى تنتقل بالموضوع نقلة أخرى لم تخطر له على بال , فإذا هى تتصور ماذا لو حرمنا الله من نعمة واحدة , كنعمة الحب والألفة , كيف سيكون حالنا ؟ كيف تحتمل الحياة بدون قوم نأنس لهم ونلوذ , ونبث همومنا ونشركهم أفراحنا , ونلجأ إليهم إذا ألمت بنا المصائب وأحاطت بنا المخاطر ؟ فقال المدرس فى نفسه : عندئذ سيكون هو الحرمان بحق . ويحمد الله على نعمه ويتدبر فيتذكر .
وكراسة الشيخ أمير تأتى فى النهاية , ذاك الفتى الذى يداعبه الجميع بوصفة الشيخ نظرا لحفظه القرآن الكريم وكثرة استشهاده بآياته فى كلامه معهم , يبدأ الموضوع بقوله تعالى : " ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا " ويتحدث عن هذا الكون الذى قد اتحدت كل أجزائه واجتمعت كل مخلوقاته على وحدة العبودية لله وحده والاستسلام له والانصياع لأوامره , وبفلسفة المؤمن يقرر أن من يسير فى ركب العبودية والطاعة وذكر الله فسوف يأنس بالكون ويرتاح , ويسير مع الركب المطمئن , ويخلص إلى أن المحروم الحقيقى هو من سار ضد التيار وخالف الكون والفطرة وعاند وكابر وتجبر وأبى أن يعبد الله حق عبادته .
فيقول المدرس : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين
ويعى أن الثورة قد خلفت جيلا جديرا بالاهتمام والإصغاء لأفكارهم وإبداعاتهم , ويقرر فتح صفحة جديدة مع نفسه ومع الناس ومع ربه تخلو من كلمة الحرمان الذى أدرك أنه كان أول من يعانى منه دون إدراك .